:: صفحة البداية :: زعتر وهليون
في المدرسة
في الموقع
نحن نتعلم
galil PLUS
مشاريع وبرامج

 

 
 
بين أحضـــــان صفوريـــــة
| 4/5/2004 | الشاعر محمود مرعي |
قال صاحبي: مر أسبوعان منذ سفرنا إلى السجرة، كأنك تراجعت عن مشروع الزعتر والمناقيش والهليون.
 
قلت: لا لم أتراجع، ولكن الحياة تشغلنا أحيانا وتأخذنا مما نحن فيه.
قال: الطقس اليوم يكاد يكون صيفيا ، فإلى أي اتجاه سنمضي؟؟.
قلت: جارتنا صفورية، سنمضي إليها فلها حق الزيارة علينا.
 
ركبنا السيارة وانطلقنا، خرجنا من القرية باتجاه الجنوب، وتظهر في جهة الشرق مستعمرة "هار يونا" التي قعدت على جبل سيخ، ومحت آثاره التي كانت مسرحا للعين، وكان لوزنا وزيتوننا ينتصب في أعلى قمة جبل سيخ، وتعود الذاكرة سنوات قليلة (1996) يوم بدأوا بقلع اللوز والزيتون، كان أبي أطال الله عمره قبل ذلك التاريخ كل يوم يصلي الفجر في المسجد ثم يفطر ما تيسر وينطلق صاعدا إلى الجبل ، يضع عكازه على كتفيه ويلف يديه حول العكاز، ويعود من الجبل ظهرا، ليعاود الصعود عصرا والعودة مساء، وكانت القرية كلها تتحدث عنه وما زالت.
 
كانت الأرض تجود بالخير، فالزراعة الصيفية لم تكن تمر سنة دون زراعة، كالبامية واللوبياء وغيرها، ومنذ اقتلعوا اللوز والزيتون، بدأ المرض بزيارة الوالد أطال الله عمره ومتعه بالعافية والصحة، حتى لكأنهم في اقتلاعهم اللوز والزيتون قد اقتلعوا من صدره شيئا، فانقلبت حاله بعدها، وتتفاءل قليلا حين ترى مستوطنة (هار يونا) بقوله تعالى (على شفا جرف هار) وتعقد مقارنة بين (هار العبرية = جبل) وبين (هار القرآنية) وتبتسم في سرك، وتردد وحدك قوله تعالى (ويسألونك متى هو ، قل عسى أن يكون قريبا)، وتذكر "عيون جنان" تلك العيون التي كنت تملأ الماء منها لتسقي اللوز صيفا، وكنت تسبح فيها ، والمزارع الذي كان يمتلك الأرض هناك والتوت والرمان، والآن لا أثر لـ "عيون جنان".
 
تصل الدوار قبل قرية الرينة، حيث الشارع النازل من (نتسيرت عيليت) و (هار يونا) صوب الغرب مرورا بصفورية، والذي التهم من الأرض مساحة كبيرة في تلك المنطقة، وتتذكر أن مكان الشارع حيث الدوار صعودا جهة الشرق، كان أرضا لأهالي الرينة يفلحونها، واليوم قسمت الأرض إلى شمال الشارع وجنوبي الشارع.
 
وانعطفنا غربا، وسرنا في الطريق المنحدرة، وما زلنا حتى وصلنا مدخلا فرعيا إلى الوعر من جهة الشمال، دخلنا فيه وتابعنا، وعلى الجانبين ينتصب الزيتون، وبعده تظهر أرض خلاء بلا شجر، لكن الربيع كساها بلونه، وتطل على صفورية من جهة الشرق، وتمتد الأراضي أمام العين، وكل مارس من الموارس بلونه، فهذا يموج الزرع فيه بلونه الأخضر، وبجانبه مارس مشجر بالزيتون، وبجانبه مارس محروث ليزرع صيفيا، وتلك بقعة جرداء تنتشر فيها الصخور.
 
أوقفت السيارة ونزلت وصاحبي، وأنزلنا القهوة والماء، وسرنا حتى وجدنا مساحة خضراء كالبساط فجلسنا.
 
في هذا الجو وهذا المحيط لا بد لك أن تنسجم مع الطبيعة حولك، فالهدوء شامل لا يكسره سوى الطير بألحانها الشجية، ويأتي من البعيد صوت شاة أو عنْزة أو بقرة، فالمراعي في تلك المنطقة متيسرة، جو متناغم يخرجك من ضجيج الحياة حتى في القرية، التي أصبحت لا تختلف عن المدينة.
 
تجيل الطرف في الجهات حولك، ففي الجنوب تظهر الناصرة وحي الصفافرة الذي يتوسد التلة، وفي الشرق ما زالت مستوطنة (هار يونا) بأبنيتها الحديثة الغريبة عن الأرض والناس تجثم على جبل سيخ، تحس أنها نشاز في المكان، واحساسك لا تدري سببه، أو ربما تدري، وفي الغرب تظهر صفورية أو بالأصح أطلالها، فصفورية أصبحت أثرا بعد عين، فقد طُرد أهلها منها عام 1948، ولم يهربوا كما يحلو للبعض أن يردد عن أغلب سكان البلاد عام 1948، تركز النظر في بقعة كانت حتى عهد قريب تسمى "مغارة بَسِّيم" وتتذكر أنك كنت تصيد الحمام والورش في داخلها، هذه البقعة أصبحت منطقة سياحية مسيجة، تأتي إليها الحافلات محملة بالسياح من أقاصي الأرض، وخلف تلك البقعة ما زالت قلعة ظاهر العمر رابضة على رأس الهضبة.
 
يصب صاحبي القهوة، ونرتشف مع سيجارة عربية بماركتها الغربية، فقد أصبحت السجائر جاهزة مع جهاز لتعبئة التبغ فيها؛ قلت لصاحبي بعد ارتشاف القهوة، وهو ما زال يجول ببصره في الجهات المحيطة:
 
ـ ماذا مع الزعتر؟؟
ـ اصبر قليلا فالجو دافئ، والجلوس في العراء غنيمة هذه الأيام، فربما غدا يكون مطر.
ـ الراصد الجوي يقول غدا كاليوم.
ـ ههههههههه، الراصد الجوي؟؟ وهل تصدق هذا؟؟
ـ ولماذا لا أصدق؟؟ ثم أنا أعني راصدي أنا وليس راصدهم.. فالفلاحون كانوا يعرفون الطقس كيف يكون كل يوم من أيام السنة، وحتى من رائحة التراب كانوا يستدلون على حالة الطقس.
 
قمنا لقطف الزعتر، وتجولنا في المنطقة، لكن لا زعتر حيث نحن، سوى أبيات قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع، فقلت لصاحبي:
 
ـ أرى أننا أخفقنا اليوم، فلا زعتر هنا.
ـ قلت لك من البداية ونحن في السيارة هنا لا يوجد زعتر، لكنك أبيت، فالزعتر هناك حيث الخزان، هناك الزعتر وليس هنا.
ـ حسنا يا صاحبي، لن نتشاجر من أجل عيون الزعتر، تعال نمض إلى مكان آخر، فخير الله كثير ولا ينضب.
ـ إلى أين، لقد قارب وقت العصر.
ـ سنذهب من داخل صفورية شمالا، فقد بلغني أنه يوجد هناك زعتر.
ـ لا تلمني إن عدنا بخفي حنين هذا اليوم، لقد أخبرتك عن مكان الزعتر، وأنت لم تسمع كلامي.
ـ يا صاحبي، حتى لو لم نجد زعترا، فقد تمتعنا برحلة.
 
ركبنا السيارة، وعدنا حتى الشارع الرئيسي، ثم اتجهنا غربا حتى مدخل صفورية، وما إن تنعطف السيارة براكبها هناك حتى يرى العشب يغطي مجرى ماء القسطل، وهذا المجرى يشتهر بنبات الحميض، الذي يكثر قطفه في بداية الربيع لطبخه مع اللوف، فهو موصوف، أوقفنا السيارة حتى نشرب من القسطل، والوقت عصرا ، قلنا نتوضأ ونصلي في المكان ثم نتابع، وجلسنا هناك ما يقارب الساعة، ورحت أتأمل القسطل كما قرأت عنه وكما هو واقع أمامي وقلت في نفسي:
 
لقد تغير القسطل يا أستاذ محمد أمين عما أخبرتنا عنه: فلا نساء يغسلن الصوف على القسطل، أين استقر المقام بأهل القسطل؟؟، وهل سيعودون يوما ما إلى القسطل؟؟.
 
انطلقنا إلى داخل صفورية، حيث تستقبلك في مدخلها بوابة تفتح فتعبر السيارة، وتغلق فينغلق الشارع، وتابعنا الطريق، حيث تظهر على الجانب حظائر البقر الذي يربى للحليب، ومررنا بآثار عربية على جانب الطريق ما زالت قائمة تأبى الزوال، كأنها تتحدى وتنتظر عودة من غابوا عنها، وما زلنا حتى خرجنا من صفورية، حيث نبات الصبار "الصبر" يمتد على طول الطريق هناك، والصبر ثمره معروف، وحلاوته كالعسل، فما بالك حين يكون من صبر صفورية، والصبر ينطبق على ثمره قول الشاعر قديما:
تريدين ادراك المعالي رخيصة       ولا بد دون الشهد من إبر النحل
فكوز الصبر يحتوي على الشهد داخله، لكنه في نفس الوقت مغطى بالشوك "إبر النحل" مع فارق التشبيه، ومما قلت في ثمار الصبر:
وللصبر أكــواز تروق لناظـــر      وفي جوفها شــهد ألذ من الشـــهد
ولكنما الأشواك قامت كحارس      ومن رام قطفا دون حرز ففي جهد
ستطعنه الأشـــواك حتى ترده       عليلا ويشكو طعنة الشوك في الجلد
قطعنا الطريق حيث الصبر وتابعنا، وعلى الجانب الأيسر بدا السهل بزرعه يموج مع نسائم العصر، وعلى الجانب الأيمن فوق التلة بدت القلعة شامخة رغم مرور الدهر وصروفه عليها، وظهرت على يمين القلعة حيث ننظر مدرسة الراهبات ، ودير حنة حيث ولدت السيدة مريم العذراء عليها وعلى ابنها السلام، وهي المكان الوحيد في صفورية الذي تجد اللغة العربية ما زالت تعيش فيه حتى يومنا، وتذكر أنك زرت الدير منذ زمن بعيد وتفحصت الأعمدة في باحته وتجولت داخله أكثر من مرة.
 
تابعنا السير حتى خرجنا إلى الشارع الرئيسي المحاذي لمشروع المياه القطري، حيث يمتد سهل البطوف خلفه على مد البصر زاهيا بخضرته وتربته، وما زلنا حتى وصلنا إلى طريق جانبي فدخلنا فيه، وكانت الشمس حينها قد شارفت على الغياب، فقال صاحبي وقد رأى ما جرى:
 
ـ لقد أضعت علينا اليوم زعترا كثيرا، وسنعود بخفي حنين.
ـ لا بأس في ذلك، فإن عدنا بلا زعتر فقد ربحنا جولة في أحضان صفورية، أليست جولتنا ممتعة؟؟.
ـ بلى ممتعة، ولكننا لم نأت للتجول، لقد جئنا لقطف الزعتر، وها نحن بلا زعتر، ولا يحزنون.
ـ هنا في السفح يوجد زعتر، وشومر، سنجمع ما نستطيع قبل أن تسقط الشمس، هيا بنا.
 
نزلنا من السيارة، وبدأنا نبحث عن الزعتر، لكن الغروب حلَّ علينا، وعوضنا ذلك بقليل من الشومر، وانطلقنا عائدين، وحين وصلنا مدخل مصنع فينيسيا الذي لا يختلف عن "هار يونا" في التهام أراضي القرية، كان صوت أذان المغرب يصدح من جميع مآذن القرى المحيطة بنا، ورحنا نردد مع المؤذن، حتى انتهى الأذان، حينها كنا قد دخلنا القرية من جهة الشمال، بعد أن طفنا بين ربوع صفورية، وعدنا بلا زعتر.

قراءات: 1568 تعقيب أرسل لصديق طبــاعة
 
تعقيبات القراء

[1] تحيه الى جميع اهالي صفوريه الصفافره اجمل قرية
13/2/2009 15:12:13ام سعيد
 
| صفحة البداية | كلمة المدير | منتديات | أكتبوا لنا | أخبر صديقك | صورة الموقع | جاليرية صور | أفلام فيديو |

Email WebMaster

   

Email School

حقوق الطبع محفوظة
مدرسة الجليل التجريبية - الناصرة