براكين ثائرة في الصدور، دموع كالحمم تحرق الوجنات، مرارة غصت بها الحلوق، وبسمة اختفت وتلاشت، بل توارت خجلا، فلم يعد لها مكان... وإن ارتسمت على الشفاه، فهي بسمة مزيفة، لا تدل على مكنون النفس. فكيف يهنأ موجوع؟ وكيف لعين جريح أن تعرف معنى الهجوع؟ أينما نظرت لا ترى إلا جراحًا نازفة، وأشلاء متناثرة، وبراءة طفولة مغتالة، كرامة شيوخ مذلة.
في مثل هذه الأثناء يحن قلمي إلى الكتابة. يحاول التجرد من جميع مسؤولياته ليكتب. أجده قادمًا متسللا من مكانه ليلقي بنفسه بين أناملي، يحاول التفرغ من جميع مواعيده. فالوضع الذي نقتات عليه في هذه الأيام يرغمه على الكتابة؛ لإدراكه لما يجول في خاطره، لما يدور في ذهنه، بالإضافة إلى إدراكه بمدى غزارة تعابيره وكلماته، وليس فقط بل وجمله التي تكون فقراته الحزينة ذارفة معها شتى أنواع الألم والعذاب، لا بل شلال الدماء... ومستنقع الدموع!.
أكتب في حالة استثنائية: "هذا ما همس وناجاني به قلمي". عباراته الكاوية وكلماته الملتهبة لم تعد تطيق الحصار. تريد أن تنطلق كقنبلة يدوي صوتها إلى الأفق البعيد، لا بل كصوت صاروخ لكنه ليس بصاروخ كالمعتاد!، صاروخ من نوع فريد، قادم من بعيد يحمل معه تباشير السلم والوئام!.
لم تعد الصور والمشاهد تدع لحبر قلمي أن يلجم عباراته، فأخذت تتدفق كنهر غاضب يريد أن يعبر عن استيائه وغضبه العارم. عبارات تحمل بين طياتها الألم والعذاب، القهر والحزن الشديد، جراء ما هو موجود، جراء ما يحدث، وجراء ما نسمع ونشهد!.
كيف للقلم أن لا يكتب والمناظر برمتها تحتم عليه ذلك؟! كيف للقلم أن لا يخط عباراته الحارقة؟ وهو يرى من الدمار والقتل والخراب ما لا تهنأ له نفس، ولا يسر له قلب، أو حتى لا تغمض له عين... يحاول قلمي بمشاعره وأحاسيسه المتدفقة بالصور التي تحتشد في مخيلته أن يحتج، أن يعبر عن رأيه، أن يشاطر الناس أحزانهم وآلامهم.
بتنا نقتات في هذه الأيام على أصداء نشرات الأخبار التي طغت واحتلت معظم شاشات المرناة، حلَّ مكان غذائنا الدمار والخراب، وليس فقط بل وأيضًا أصوات دوي الإنفجارات وصفير صفارات الإنذار! مشاهد وصور تدخل إلى الألباب دون استئذان، لتفرض سيطرتها وواقعها المرير على النفس، وتحفر مأساة عميقة داخل القلوب، تاركةً آثارًا بالغة الحزن والألم في نفوسنا، والصمت يخيم وليس من مغيث! تيار الدم ينتزع حبر أقلامنا ليسري مكانها، حافرَا كلماته الحمراء على أوراقنا البيضاء، راويًا إياها عله يفلح بإيقاظ من هم في سبات عميق منذ زمن بعيد!... |