فيها... وعلى بعد تجاوز الستين من السنين.. منذ لحظة الخراب تلك.. التي فاقت القيامة.. والعهن المنفوش. فيها.. عدت وأطفالي الخمسة إلى صخرة هنا في بلدتنا صفورية.. جلسنا.. واستمر الصمت جالسا فينا.. وجدتني أشير إلى ركام كان بنيانها وتشير الابنة إلى قلعة شامخة شوهها الترميم وأخرى تشير للخلف حيث كان البيت والحوض وبرج الحمام، وعين الابن تشير إلى عين بالأمس كانت.
نشير جميعاً إلى أشياء لم نرها حيّة من قبل، قد رويت لي من والدي وأقرانه ورويتها لأطفالي.. وارتوى خيال الواحد منّا بصور اكتملت روحا وحياة.. وتململ السكون الذي غمرنا وأتتنا من الأعماق أصوات جموع الأهل حيث هم هناك.. بجوار الوطن في الخيام وبينها.. هناك حيث لا وطن.. ولا بيت.. ولا عين.. وأبصرنا معا تاريخا مدمّى وصرخات وعويلا وأنينا ودعاءات .. واحتباس الدمع في مآقي جبروت الرجال. مزيج حي وثائر تتزاحم جزيئاته في مخيلتنا الجماعية لتثقلنا هما ومسؤولية.. انتابنا شعور الجسد الواحد.. نختزن نفس المعاني ونبصر نفس الصور، ونفس الأصوات نصغيها ونرقب نفس الأحداث وتلدغنا المشاعر والأحاسيس نفسها..
نظرت في الوجوه وحدّقت في الأعين فرأيتها والأيادي جميعا مندمجة وغارقة في رسم لوحة ألوانها الوطن، بلدة عامرة بأرضها وناسها تعتليها بيوت وساحات وتعتريها خضرة البساتين والأعشاب، ويقهر عتمتها شعاع الشمس وضوء القمر.. يرتسم الوطن أمامنا.. وصمت هائج يحيط أجوائنا. صمت فضّته للحظة ضحكة بريئة من طفلي.. ثم عاود الصمت سكونه.. وطويت اللوحة.. وتكشّفت لنا لوحة بيضاء جديدة سقطت على أديمها دمعة معتقة دوامها ستون عاما تلتها أخرى، فدمعة، فأخرى، فأخرى .. ثم تدفقت من كرة البلور جموع حية، وجوه سمراء تناطح الأعالي وأجساد تندفع بقوة وانسجام نحونا.. نحو القرية.. إنهم ناسها عائدون إليها.. إنهم أهلها عائدون إليها، هكذا نطقت ابنتي.. اندفعنا إليهم واندفعوا إلينا ومعا نحو المستقبل .. حيث أشار ولدي الرضيع.
فيصل طه - 15/5/2011
(صفورية - الناصرة) |